لعل مواقف أمیر المؤمنین فی الحرب التی أذل بها إبطال قریش وساداتهم دفاعا عن الإسلام ، وتثبیت دعائمه ، أوغر قلوب أعداء الله والإسلام حقدا ، وملء صدورهم غلاً ... فراحوا یتحینون الفرض للانتقام منه ، والطعن به ، والنیل منه....
ولیس بخاف على أحدٍ ما فعله بنو أمیة (آل سفیان) ثم بنو العباس من النصب والعداء لأمیر المؤمنین (ع) ... ولذلک أوصى (ع) أن یخفى قبره ... لعلمه أن الأمر سیصیر إلى بنى أمیة من بعده ، فلم یأمن أن یمثلوا بقبره من بعده (( فاقتضی ذلک أن أوصى بدفنه علیه السلام سراً وخوفاً من بنی أمیة وأعوانهم والخوارج وأمثالهم فربما لو نبشوه مع علمهم بمکانه حمل ذلک بنی هاشم على المحاربة والمشافقة التی أغضى عنها علیه السلام فی حال حیاته فکیف لا یرضى بترک ما فیه مادة النزاع بعد وفاته ))؟ ( بنظر: فرحة الغری ص25 ) .. ویمضی السید إبن الطاووس قائلا )) وقد کان فی طی قبره فوائد لا تحصى غیر معلومة لنا بالتفاصیل وروی عن إبن عباس ( أن رسول الله (ص) قال لعلی (ع) أن أرض کوفان شرفها بقبرک یا علی .. فقال علی (ع) : یا رسول الله أقبر بکوفان العراق ؟ فقال نعم یا علی تقبر بظاهرها قتیلاً بین الغریین و الذکوات البیض ....))(فرحة الغری / 37-38) .
وهذا ما دعا الحجاج بن یوسف الثقفی حینما صار الأمر لبنی أمیة أن یدعو إلى حفر ثلاثة آلاف قبر فی النجف طلبا لجثة أمیر المؤمنین (ع) کما ذکر ذلک صاحب کتاب منتخب التواریخ على صفحة 291 من هذا الکتاب .....
لذلک لم یطلع على قبر أمیر المؤمنین غیر أولاده (علیهم السلام) ومن وثقوا به من شیعتهم ..
(ظهور القبر الشریف وکرامته)
لقد ألتزم أولاد أمیر المؤمنین علیهم السلام بما أوصاهم به والدهم وبقی مکان القبر المطهر سراً من أسرار آل البیت (علیهم السلام) لا یعرفه أحد غیرهم إلا ثلة قلیلة من شیعتهم المقر بین إلیهم ..
وما إن دالت دولة بنی أمیة ، وصار الأمر بید بنی العباس انتفت أسباب إخفاء القبر الشریف .. فاخذ السر الذی کتموه سنین طویلة بالظهور فاطلعوا علیه الخلص من الذین أمنوا بالله ورسوله إیمانا حقا وأحبوا آل بیته وأخلصوا لهم إلتزاما بقوله تعالى (( قل : لا اسئلکم علیه اجراً إلا المودة فی القربى )) . وکان القبر وقت ذاک ربوة قائمة أو أکمة کما ذکرت ذلک الکتب التاریخیة المعتبرة .
ویروی أن داود بن علی العباسی (ت132 هـ) حاول أن یعرف سر القبر ویکتشفه فبعث ببعض غلمانه ممن یضع ثقته فیهم وکان من بینهم عبد أسود عرف بقوته الجسمانیة .. فباشروا بالحفر حتى وصلوا ما یقرب من خمسة أذرع إلى صخرة صلدة وقفت حائلاً بینهم ومواصلة الحفر ، فطلبوا من الغلام الأسود أن ینزل ویجرب قوته فیها فضربها بقوة أحدثت صوتا ً قویاً وتلاها بثانیه وثالثه حتى سمعوه یصرخ ویستغیث ویطلب منهم أن یخرجوه فلما أخرجوه وحاولوا استنطاقه لیتبنوا الأمر منه لم ینطق ببت شفه ولازم الصمت خائفا مرعوباً ثم اخذ لحمه یتناثر من سائر جسده فتناهى الخبر إلى داود بن علی فکتم أمر محاولته هذه وأعاد دفن القبر وعمل علیه صندوقا من الخشب .. ینظر (فرحة الغری ص61).
( ماطرا على القبر الشریف من الأعمار والإصلاح )
لقد طرأت على القبر الطاهر بعد وضع داود بن علی العباسی الصندوق تغییرات وإصلاحات وعمارات عدة أبرزها وأهمها کما یأتی .
أولا ( عمارة هارون الرشید)
وتعد العمارة الأولى أمر ببنائها وتشییدها الخلیفة العباسی هارون الرشید سنة (100هـ) . وینقل لنا صاحب کتاب (عمدة الطالب ) على صفحة (42) من کتابه هذا السبب الذی دعا هارون الرشید إلى الاهتمام ببنائه ، وهو انه خرج یوما إلى ظاهر الکوفة یتصید ، وهناک حمر وحشیة وغزلان کثیرة فی هذا المکان فکان کلما القی صقوره وکلابه علیها لجأت إلى کثیب رمل هناک ، فترجع عنها الصقور والکلاب ؟ وتکرر ذلک أکثر من مرَّة ، فتعجب الرشید اشد العجب من ذلک .. فحاول أن یعرف علة ذلک الأمر فاستدعى ذوی الخبرة والشأن بهذا المجال ومن له اطلاع بهذا الأمر من أهل الکوفة فاخبره ....... من استدعاهم للسؤال أن تحت هذا الکثیب الرملی قبر أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب (ع) .. فسارع إلى استدعاء أمهر البنائین والصناع وأمرهم ببناء قبة فخمة على هذا المکان لها أربعة أبواب ... وتم استخدام الطین الأحمر فی بنائها .. وطرح على رأسها جرّة خضراء ... أما الضریح فبنی بحجارة بیضاء .
ینظر : ارشاد القلوب / للدیلمی
وریاض السیاحة / لزین العابدین الشیروانی ص309
ونزهة القلوب / لحمد الله المستوفی ص134
وأجمعت کتب التاریخ المعتبرة التی تناولت هذا الأمر على أن هارون الرشید هو أول من أطهر القبر الشریف ... وهو أول من عمّره عمارة عالیة وجعل له منارا مرتفعا ... وسمح للناس بالذهاب إلیه وزیارته .
ثالثا : (عمارة الداعی الصغیر)
وهی العمارة الثانیة شیدت بأمر من محمد بن زید بن محمد إسماعیل بن الحسن بن زید بن الحسن السبط المعروف بـ(الداعی الصغیر)
ملک طبرستان أکثر من سبع عشرة ثم قتل سنة (287هـ) .
أمر ببناء قبة وحائط وحصن فیه سبعون طاقا ..
ومن الجدیر بالذکر أن هذا البناء یعد إحدى الظواهر الغیبیة التی أنعم الله عز وجل على آل البیت الرسول (ص) ، إذ قام الإمام جعفر الصادق (ع) بإخبار أصحابه بهذا البناء بتفاصیله الدقیقة قبل عشرات السنین من بنائه .
وعبر السنین طرأت على هذه العمارة إضافات وإصلاحات منها ما قام به عمر بن یحیى القائم بالکوفة ، کما ذکر ذلک المحدث النوری فی مستدرک الوسائل 435/3 .
و ذکر ابن حوقل فی کتابه (صورة الأرض) على صفحة 43 أن هناک عمارة أخرى قبل عمارة عضد الدولة ..
وضرب أبو الهیجاء عبد الله بن حمدان على هذا المکان حصارا منیعا وابتنى على القبر المطهر قبة عظمیة رفیعة الأرکان لها أبواب من کل جانب ، وقد ورد ذکر هذه العمارة فی شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 2/54-64 .
(( عمارة عضد الدولة ))
وهی العمارة الثالثة .. وقد عُدّت من بدائع ما صنعه الإنسان فی هذا المجال وقتذاک . ویذکر صاحب (إرشاد القلوب) على صفحة (148) الجزء الثانی .. إنًّ عضد الدولة أمر بإعادة بناء العمارة السابقة وجلب لهذا الغرض أشهر البنائین والمعماریین فعمر المکان وبنی فیه عمارة حسنة وقد کانت موجودة سنة (338هـ) .. کما جاء ذکرها فی کتاب (ریاض السیاحة) ص309 .. أمّا صاحب کتاب (تاریخ طبرستان) فیذکر فی الجزء الأول وعلى صفحة (224) أنَّ العمارة باقیة کما هی إلى سنة (753هـ) .
ومن یطلع على ما کتبه الرحالة ابن بطوطة یجد انه قد خصص جزءً من رحلته متحدثاً عن النجف بعد أن زارها سنة (727هـ) ، فیصف البلدة وأسواقها ومدارسها وما فی الصحن الشریف من نفائس وتحف .. ثم یصف ما یقوم به سدنة المرقد المطهر مع الزوار القادمین من أماکن مختلفة .. ویعطی وصفاً شاملاً للقنادیل المعلقة وللمسطبة وما کسیت به ویذکر ارتفاعها وما فیها من القبور فیقول ((فیزعمون أنَّ احدها (قبر أدم (ع) ) والثانی (قبر نوح (ع) ) والثالث (قبر علی رض الله عنه) ، ثم یذکر الطشوت المصنعة من الذهب والفضة التی بین القبور وما فیها من ماء الورد والمسک وأنواع الطیب .. وکیف یأتی الزائر فیغمس یده فیها ویدهن وجهه تبرکاً .
(ینظر : رحلة ابن بطوطة)
وإذا کان الفضل یعود فی بناء العمارة لعضد الدولة فانَّ أمراء بعض بنی بویه ووزرائهم ، وکذلک الحمدانیین وبعض بنی العباس المحبین لآل بیت الرسول (صل الله علیه وآله وسلم) قاموا بإصلاحات وتطویرات وإضافات فنیة جمیلة .. (ینظر: فرحة الغری ص53) .
ومن الجدیر بالذکر أنَّ (المستنصر بالله العباسی) اهتم اهتماماً کبیراً بتعمیر الضریح المقدس وبالغ فی تحسینه وتزیینه .. (ینظر: المصدر نفسه) وقد امتدت إلى هذه العمارة السنة النیران وأکلت ما فیها من أثاث وأخشاب وأتلفت القنادیل واللوحات .
((العمارة المنسوبة الى الأیلخانیین))
وهی العمارة الرابعة ، فیعد احتراق عمارة عضد الدولة البویهی سعى کثیرٌ من ذوی الجاه والسلطان من المتشیعّین إلى إعادة أعمارها وتحسینها .
وفعلا أعید أعمارها وزینت بأحسن النقوش وفرشت بالفرش الفاخرة لکنَّ احداً لم یذکر شیئاً عمّن قام بتعمیرها وتزیینها وفرشها .
(ینظر: نزهة الناظر ، لمحمد بن سلیمان بن زویر السلیمانی)
(ینظر: رسالة أهل الحرمین ، لحسین الصدر الکاظمی).
ویرى صاحب ماضی النجف وحاضرها أنَّ هذه العمارة تعود إلى الایلخانیین .. وفی عصرهم أعید إصلاحها وتأثیثها وتزیینها .
وممن اشتهر بإصلاح هذه العمارة الشاه عباس الأول المعروف بآثاره الجمیلة فی النجف الأشرف .
ینظر: المنتظم الناصری لمحمد حسن خان ، 2/179.
ینظر: ملحق روضة الصفا / لرضا قلی .
((عمارة الشاه صفی))
وهی العمارة الخامسة ، عنی بتشییدها وإصلاحها الشاه صفی حفید الشاه عباس الأول .. وأمر بتوسیع ساحة الصحن الشریف التی کانت ضیقة وهدم بعض جوانبها لتوسیع ساحة الحرم العلوی المطهر .. (ینظر: ملحق روضة الصفا،لرضا قلی ، الجزء الأول) .
وقد أمر وزیر الشاه صفی بإجراء بعض التعدیلات على الحرم الشریف فوسع ساحته .. وبأمر من الشاه صفی أوعز إلى العاملین بجلب ماء الفرات إلى النجف وکانت المدینة بأمس الحاجة إلیه .
(ینظر: المنتظم الناصری ، 2/82)
(ینظر: ماضی النجف ، 49/50)